فصل: قال الثعلبي:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



.قال السمرقندي في الآيات السابقة:

قوله تعالى: {إِنّا أرْسلْنا نُوحا إلى قوْمِهِ} يعني: جعله الله رسولا إلى قومه.
{أنْ أنذِرْ قوْمك} يعني: أن خوف قومك بالنار لكي يؤمنوا بالله.
{مِن قبْلِ أن يأْتِيهُمْ عذابٌ ألِيمٌ} يعني: الطوفان والغرق.
{قال} لهم نوح عليه السلام: {إلى قوْمِهِ إِنّى لكُمْ نذِيرٌ مُّبِينٌ} يعني: قال نوح لقومه أنبئكم بلغة تعرفونها؟ {أنِ اعبدوا الله} يعني: أنذركم وأقول لكم اعبدوا الله، يعني: وحدوا الله.
{واتقوه} يعني: واخشوه واجتنبوا معاصيه.
{وأطِيعُونِ} فيما آمركم، {يغْفِرْ لكُمْ مّن ذُنُوبِكُمْ} يعني: ذنوبكم.
و(من) صلة.
{ويُؤخّرْكُمْ} يعني: يؤجلكم {إلى أجلٍ مُّسمّى} يعني: إلى منتهى آجالكم.
{إِنّ أجل الله} يعني: إن عذاب الله، {إِذا جاء لا يُؤخّرُ} يعني: لا يستطيع أن يؤخره أحد.
{لوْ كُنتُمْ تعْلمُون} يعني: لو كان لكم علم تنتفعون به.
قوله تعالى: {قال ربّ} يعني: دعا نوح بعد ما كذبوه في طول المدة، قال: رب يعني: يا رب، {إِنّى دعوْتُ قوْمِى} إلى التوحيد {ليْلا ونهارا} يعني: في كل وقت سرا وعلانية.
{فلمْ يزِدْهُمْ دُعائِى إِلاّ فِرارا} يعني: إلى التوحيد تباعدا من الإيمان.
قال عز وجل: {وإِنّى كُلّما دعوْتُهُمْ} إلى التوحيد، {لِتغْفِر لهُمْ جعلُواْ أصابعهم في ءاذانهم} يعني: لا يسمعون دعائي، {واستغشوا ثِيابهُمْ} يعني: غطوا رؤوسهم بثيابهم لكي لا يسمعوا كلامي.
{وأصرُّواْ} يعني: أقاموا على الكفر والشرك، {واستكبروا استكبارا} يعني: تكبروا عن الإيمان تكبرا.
قوله تعالى: {ثُمّ إِنّى دعوْتُهُمْ جهارا} يعني: دعوتهم إلى الإيمان علانية من غير خفية، {ثُمّ إِنّى أعْلنْتُ لهُمْ} يعني: صحت لهم، {وأسْررْتُ لهُمْ إِسْرارا} يعني: خلطت دعاءهم بالعلانية بدعائهم في السر.
{فقُلْتُ استغفروا ربّكُمْ} يعني: توبوا وارجعوا من ذنوبكم، يعني: الشرك والفواحش.
{إِنّهُ كان غفّارا} يعني: غفارا لمن تاب من الشرك.
{يُرْسِلِ السماء عليْكُمْ مُّدْرارا} يعني: المطر دائما كلما احتاجوا إليه.
{ويُمْدِدْكُمْ بأموال وبنِين} يعني: يعطيكم أموالا وأولادا، {ويجْعل لّكُمْ جنات} يعني: البساتين، {ويجْعل لّكُمْ أنْهارا} يعني: في الجنات.
قوله تعالى: {مّا لكُمْ لا ترْجُون لِلّهِ وقارا}؟ ما لكم لا تخافون لله عظمة في التوحيد؟ وهو قول الكلبي ومقاتل؛ وقال قتادة: ما لكم لا ترجون لله عاقبة؟ ويقال: ما لكم لا ترجون عاقبة الإيمان؟ يعني: في الجنة.
وروى سعيد بن جبير، عن ابن عباس قال: ما لكم لا تعلمون حق عظمته؟ وقال مجاهد: ما لكم لا ترجون لله عظمة؟ {وقدْ خلقكُمْ أطْوارا} يعني: خلقا بعد خلق وحالا بعد حال، نطفة، ثم علقة، ثم مضغة.
فمعناه: ما لكم لا توحدون، وقد خلقكم ضروبا؟ ويقال: أراد به اختلاف الأخلاق والمنطق، ويقال أراد به المناظرة.
ثم وعظهم ليعتبروا، فقال عز وجل: {ألمْ تروْاْ كيْف خلق الله}؟ يعني: ألم تنظروا فتعتبروا، كيف خلق الله تعالى {سبْع سموات طِباقا}؟ يعني: مطبقا بعضها فوق بعض.
{وجعل القمر فِيهِنّ نُورا} يعني: ضياء لبني آدم.
وإنما قال: {فِيهِنّ} أراد به سماء الدنيا، لأنها إحداهن.
{وجعل الشمس سِراجا} يعني: نورا للخلق؛ ويقال: {جعل القمر فِيهِنّ نُورا} يعني: في جميع السموات، لأن إحداهن مضيء لأهل السموات وظهره لأهل الأرض؛ ويقال: {وجعل القمر فِيهِنّ نُورا} يعني: معهن نورا.
ثم قال عز وجل: {والله أنبتكُمْ مّن الأرض نباتا} يعني: خلقكم في الأرض خلقا.
ويقال: يعني: خلقكم من الأرض وهو آدم عليه السلام وأنتم من ذريته.
{ثُمّ يُعِيدُكُمْ فِيها} يعني: بعد الموت.
{ويُخْرِجُكُمْ إِخْراجا} يعني: يخرجكم من الأرض يوم القيامة قوله تعالى: {والله جعل لكُمُ الأرض بِساطا} يعني: فراشا، {لّتسْلُكُواْ مِنْها} يعني: فتمضوا فيها وتأخذوا فيها {سُبُلا فِجاجا} يعني: طرقا بين الجبال والرمال؛ ويقال: طرقا واسعة.
قوله تعالى: {قال نُوحٌ رّبّ إِنّهُمْ عصونى} فيما أمرتهم من توحيد الله تعالى، {واتبعوا} يعني: أطاعوا {من لّمْ يزِدْهُ مالُهُ} يعني: أطاعوا من لم يزده ماله يعني: كثرة أمواله {وولدُهُ إِلاّ خسارا} أي: خسرانا في الآخرة.
{ومكرُواْ مكْرا كُبّارا} يعني: مكرا عظيما؛ ويقال: مكروا مكرا كبيرا يعني: قالوا كلمة الشرك.
والكبير والكبار بمعنى واحد.
{وقالواْ لا تذرُنّ ءالِهتكُمْ} يعني: قال بعضهم لبعض: ويقال: قال الرؤساء للسفلة: لا تذرن، يعني: لا تتركوا عبادة آلهتكم.
{ولا تذرُنّ ودّا ولا سُواعا ولا يغُوث ويعُوق ونسْرا}، فهذه أسماء الأصنام التي كانوا يعبدونها يعني: لا تتركوا عبادة هذه الأصنام قرأ نافع {وُدّا} بضم الواو، والباقون بالنصب، ومعناهما واحد.
وهو اسم الصنم، وقال قتادة: هذه الآلهة كان يعبدها قوم نوح، ثم عبدها العرب بعد ذلك.
وقال القتبي {الود} صنم، ومنه كانت العرب تسمى (عبد ود)، وكذلك تسمي (عبد يغوث).
ثم قال: {ونسْرا وقدْ أضلُّواْ كثِيرا} يعني: هذه الأصنام أضلوا كثيرا من الناس، يعني: ضلوا بهن كثيرا من الناس، كقوله: {إِنّهُنّ أضْللْن} كثيرا من الناس.
ثم قال: {ولا تزِدِ الظالمين إِلاّ ضلالا} يعني: خسارا وغبنا.
ثم قال عز وجل: {مّمّا خطيئاتهم أُغْرِقُواْ} يعني: بشركهم بالله تعالى أُغرقوا في الدنيا.
{فأُدْخِلُواْ نارا} في الآخرة.
قال مقاتل: {بِما خطيئاتهم أُغْرِقُواْ} بخطياتهم؛ وقال القتبي: (بما خطياتهم أغرقوا) يعني: من خطيئاتهم أغرقوا، والميم زيادة.
ثم قال: {فلمْ يجِدُواْ لهُمْ مّن دُونِ الله أنصارا} يعني: أعوانا يمنعونهم من العذاب.
قرأ أبو عمرو {خطاياهم}، والباقون {خطيئاتهم} ومعناهما واحد، وهو جمع خطيئة.
قوله تعالى: {وقال نُوحٌ رّبّ لا تذرْ على الأرض مِن الكافرين ديّارا} يعني: لا تدع على ظهر الأرض من الكافرين ديارا، يعني: أحدا منهم؛ ويقال: أصله من الدار يعني: نازلا بها، ويقال: في الدار أحد وما بها ديار؛ وأصله ديوار، فقلبت الواو ياء ثم شددت وأدغمت الياء في الياء.
ثم قال عز وجل: {إِنّك إِن تذرْهُمْ يُضِلُّواْ عِبادك} يعني: إنك إن تتركهم ولم تهلكهم، يدعوا الموحدين إلى الكفر.
{ولا يلِدُواْ إِلاّ فاجِرا كفّارا} يعني: يكون منهم الأولاد، يكفرون ويفجرون بعد البلوغ؛ ويقال: يعني: ولا يلدوا إلا أن يكونوا فجارا كفارا.
وهذا كما قال النبي صلى الله عليه وسلم: «الشّقِيُّ منْ شقِي فِي بطْنِ أُمِّهِ والسّعِيدُ منْ وُعِظ بِغيْرِهِ».
ثم قال عز وجل: {رّبّ اغفر لِى ولوالدى ولِمن دخل بيْتِى مُؤْمِنا} يعني: سفينتي وديني.
وقال الكلبي: {ولِمن دخل بيْتِى مُؤْمِنا} يعني: مسجدي.
{ولِلْمُؤْمِنِين والمؤمنات ولا تزِدِ الظالمين إِلاّ تبارا} يعني: لا تزد الكافرين إلا هلاكا، كقوله: {علوْاْ تتْبِيرا}.
وروى عكرمة، عن ابن عباس رضي الله عنه كان إذا قرأ القرآن في الليل، فمر بآية فيقول لي: يا عكرمة ذكرني عند هذه الآية غدا.
فقرأ ذات ليلة هذه الآية، فقال: يا عكرمة، ذكرني غدا.
فذكرته ذلك، فقال: إن نوحا دعا بهلاك الكافرين، ودعا للمؤمنين بالمغفرة، وقد استجيب دعاؤه في المؤمنين، فيغفر الله تعالى للمؤمنين والمؤمنات بدعائه، وبهلاك الكافرين فأهلكوا.
وروي عن بعض أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: «نجاةُ المُؤْمِنِين فِي ثلاثةِ أشْياءٍ: بِدُعاءِ نُوْحٍ عليه السلام وبِدُعاءِ إِسْحاق عليه السلام وبِشفاعةِ مُحمّدٍ صلى الله عليه وسلم»: يعني: للمؤمنين والله أعلم. اهـ.

.قال الثعلبي:

سورة نوح عليه السلام:
{إِنّآ أرْسلْنا نُوحا إلى قوْمِهِ أنْ أنذِرْ قوْمك مِن قبْلِ أن يأْتِيهُمْ عذابٌ ألِيمٌ قال ياقوم إِنِّي لكُمْ نذِيرٌ مُّبِينٌ أنِ اعبدوا الله واتقوه وأطِيعُونِ يغْفِرْ لكُمْ مِّن ذُنُوبِكُمْ}
{مِّن} صلة {ويُؤخِّرْكُمْ إلى أجلٍ مُّسمّى} وهو الموت فلا يهلككم بالعذاب {إِنّ أجل الله إِذا جاء لا يُؤخّرُ لوْ كُنتُمْ تعْلمُون قال ربِّ إِنِّي دعوْتُ قوْمِي ليْلا ونهارا فلمْ يزِدْهُمْ دعآئي إِلاّ فِرارا} نفارا وإدبارا عنه {وإِنِّي كُلّما دعوْتُهُمْ لِتغْفِر لهُمْ جعلوا أصابِعهُمْ في آذانِهِمْ} لئلاّ يسمعوا دعوتي {واستغشوا ثِيابهُمْ} غطوا بها وجوههم لئلاّ يروني ولا يسمعوا صوتي {وأصرُّواْ} على الكفر {واستكبروا استكبارا ثُمّ إِنِّي دعوْتُهُمْ جِهارا ثُمّ إني أعْلنْتُ لهُمْ} الدعوة {وأسْررْتُ لهُمْ إِسْرارا فقُلْتُ استغفروا ربّكُمْ إِنّهُ كان غفّارا يُرْسِلِ السماء عليْكُمْ مِّدْرارا}.
أخبرني الحسين قال: حدّثنا عبد الله بن إبراهيم بن عليّ قال: حدّثنا محمد بن عمران بن هارون قال: حدّثنا أبو عبيد الله المخزومي قال: حدّثنا سفيان عن مطرف عن الشعبي: أن عمر خرج يستسقي بالناس، فلم يزد على الاستغفار حتّى رجع، فقالوا له: ما رأيناك استسقيت، فقال عمر: لقد طلبت المطر لمحاويج السماء التي يستنزل منها المطر، ثمّ قرأ: {استغفروا ربّكُمْ إِنّهُ كان غفّارا يُرْسِلِ السماء عليْكُمْ مِّدْرارا}.
{ويُمْدِدْكُمْ بِأمْوالٍ وبنِين ويجْعل لّكُمْ جنّاتٍ} بساتين {ويجْعل لّكُمْ أنْهارا} جارية، وذلك أن قوم نوح لما كذّبوه زمانا طويلا حبس الله عنهم المطر، وأعقم أرحام نسائهم أربعين سنة، فهلكت أموالهم ومواشيهم، فوعدهم الله إن آمنوا أن يرد عليهم.
وروى الربيع بن صبيح أن رجلا أتى الحسن فشكا إليه الجدوبة، فقال له الحسن: استغفر الله، وأتاه آخر فشكا إليه الفقر، فقال له: استغفر الله، وأتاه آخر فقال: ادع الله أن يرزقني ابنا، فقال له: استغفر الله، وأتاه آخر فشكا إليه جفاف بساتينه فقال له: استغفر الله فقلنا أتاك رجال يشكون أبوابا ويسألون أنواعا فأمرتهم كلهم بالاستغفار، فقال: ما قلت من ذات نفسي في ذلك شيئا إنّما أعتبرت فيه قول الله سبحانه حكاية عن نبيّه نوح عليه السلام إنّه قال لقومه: {استغفروا ربّكُمْ إِنّهُ كان غفّارا يُرْسِلِ السماء عليْكُمْ مِّدْرارا ويُمْدِدْكُمْ بِأمْوالٍ وبنِين ويجْعل لّكُمْ جنّاتٍ ويجْعل لّكُمْ أنْهارا}.
{مّا لكُمْ لا ترْجُون لِلّهِ وقارا}. قال ابن عباس ومجاهد: ما لكم لا ترون لله عظمة، سعيد بن جبير: ما لكم لا تعظمون لله حقّ عظمته. منصور عن مجاهد: لا تبالون لله عظمته. العوفي عن ابن عباس: لا تعلمون لله عظمة. قتادة: لا ترجون لله عاقبة، ابن زيد: لا ترون لله طاعة.
الكلبي: لا تخافون لله عظمة. ابن كيسان: ما لكم لا ترجون في عبادة الله أن يثبكم على توقيركم إياه خير، الحسن: لا تعرفون لله حقا ولا تشكرون له نعمة. سعيد بن جبير أيضا: لا يرجون لله ثوابا ولا يخافون عقابا، والرجاء من الأضداد يكون أملا وخوفا.
{وقدْ خلقكُمْ أطْوارا} تارات ومرات حالا بعد حال، نطفة ثمّ علقة ثمّ مضغة، إلى تمام الخلقة {ألمْ تروْاْ كيْف خلق الله سبْع سماواتٍ طِباقا وجعل القمر فِيهِنّ نُورا}.
{وجعل الشمس سِراجا} قال الحسن: يعني في السماء الدنيا. وهذا جائز في كلام العرب، كما يقال: أتيت بني تميم وأتاني بعضهم، ويقول: فلان متوار في دور بني فلان، وإنّما هو في دار واحدة. وقال مقاتل: هو معناه وجعل القمر معهن نورا لأهل الأرض، {فِي} بمعنى مع. وقال عبد الله بن محمد: وإن الشمس والقمر وجوههما قبل السموات وضوء الشمس ونور القمر منها وأقفيتها قبل الأرض، وأنا أقرأ بذلك آية من كتاب الله سبحانه {وجعل القمر فِيهِنّ نُورا وجعل الشمس سِراجا} مصباحا مضيئا.
وقيل لعبد الله بن عمر: ما بال الشمس تُصلينا أحيانا وتبرد علينا أحيانا، فقال: إنّها في الصيف في السماء الرابعة وفي الشتاء في السماء السابعة عند عرش الرحمن، ولو كانت في السماء الدنيا لما قام لها شيء.
{والله أنبتكُمْ مِّن الأرض نباتا} وكان حقّه إنباتا ولكنّه مصدر مخالف للصدر، وقال الخليل: مجازه: فنبتم نباتا {ثُمّ يُعِيدُكُمْ فِيها} أمواتا {ويُخْرِجُكُمْ} منها أحياء {إِخْراجا والله جعل لكُمُ الأرض بِساطا} مهادا يحملكم ويستركم أمواتا {لِّتسْلُكُواْ مِنْها سُبُلا فِجاجا} طرقا مختلفة. {قال نُوحٌ رّبِّ إِنّهُمْ عصوْنِي واتبعوا من لّمْ يزِدْهُ مالُهُ وولدُهُ إِلاّ خسارا} وهم القادة والأشراف {ومكرُواْ مكْرا كُبّارا} عظيما يقال: كبر كبار بالتخفيف وكبّار بالتشديد، كلها بمعنى واحد ونظيره في كلام العرب، أمر عجيب وعجاب وعجّاب، ورجل حسان وحسّان، وكمال وكمّال، وقراء للقاري ووضّاء للوضي، وأنشد ابن السكيت:
بيضاء تصطاد القلوب وتستبي ** وبالحُسن قلب المسلم القراء

وقال آخر:
والمرء يلحقه بقيتان الندى ** خُلق الكريم وليس بالوضاء

وقرأ ابن محيص وعيسى: {كبارا} بالتخفيف، واختلفوا في معنى مكرهم.
فقال ابن عباس: قالوا قولا عظيما. الحسن: مكروا في دين الله وأهله مكرا عظيما.
الضحاك: افتروا على الله وكذّبوا رسله. وقيل: حرّشوا أسفلتهم على قتل نوح.
{وقالواْ} لهم {لا تذرُنّ آلِهتكُمْ ولا تذرُنّ ودّا} قرأ أهل المدينة بضم الواو، وغيرهم بفتحها وهما لغتان {ولا سُواعا ولا يغُوث ويعُوق} قراءة العامة غير مجرى فيهما، قال أبو حاتم: لأنهما على بناء فعل مضارع وهما مع ذلك أعجميان. وقرأ الأعمش وأشهب العقيلي: {ولا يغوثا ويعوقا} مصروفين {ونسْرا}.
أخبرني الحسين قال: حدّثنا عبد الله بن يوسف، قال: حدّثنا عبد الله بن محمد بن عبد العزيز البغوي، قال: حدّثنا محمد بن بكار بن المرقان، قال: حدّثنا أبو معشر عن يزيد بن زياد عن محمد بن كعب، قال: كان لآدم عليه السلام خمس بنين: ود وسواع ويغوث ويعوق ونسر، وكانوا عبادا فمات رجل منهم فحزنوا عليه حزنا شديدا، فجاءهم الشيطان، فقال: هل لكم أن أصور لكم في قبلتكم مثله إذا نظرتم إليه ذكرتموه، قالوا: نكره أن يجعل في قبلتنا شيئا نصلي إليه، قال: فأجعله في مؤخّر المسجد.
قالوا: نعم فصوره لهم من صفر ورصاص، ثمّ مات آخر فصوّره لهم، ثمّ مات آخر فصوّره لهم، قال: فنقصت الأشياء كما ينقصون اليوم وأقاموا على ذلك ما شاء الله، ثمّ تركوا عبادة الله سبحانه فأتاهم الشيطان فقال: ما لكم لا تعبدون شيئا، قالوا: من نعبد؟ قال: هذه آلهتكم وآلهة آبائكم لا ترونها مصوّرة في مصلاّكم، قال: فعبدوها من دون الله عزّوجل، حتّى بعث الله عزّوجلّ نوحا فدعاهم إلى عبادة الله سبحانه، فقالوا: {لا تذرُنّ آلِهتكُمْ} إلى قوله سبحانه وتعالى: {ونسْرا}.
وروى سفيان عن موسى عن محمد بن قيس، {ولا تذرُنّ ودّا ولا سُواعا ولا يغُوث ويعُوق ونسْرا} قال: كانوا قوما صالحين بين آدم ونوح عليهما السلام، وكان لهم أتباع يقتدون بهم، فلما ماتوا، قال أصحابهم الذين كانوا يقتدون بهم: لو صوّرناهم كان أشوق لنا إلى العبادة إذا ذكرناهم، فصوّروهم، فلمّا ماتوا وجاء آخرون دبّ إليهم إبليس فقال: إنّما كانوا يعبدونهم وبهم يسقون المطر فعبدوهم.
قال ابن عباس: كان نوح يحرس جسد آدم على جبل بالهند، يحول بين الكافرين وبين أن يطوفوا بقبره، فقال لهم الشيطان: إنّ هؤلاء يفخرون عليكم فيزعمون أنّهم بنو آدم دونكم وإنّما هو جسد وأنا أصور لكم مثله تطوفون به، فنحت خمسة أصنام وحملهم على عبادتها وهي ودّ وسواع ويغوث ويعوق ونسر، فلما كان أيام الغرق دفن الطوفان تلك الأوثان وطمّها التراب، فلم تزل مدفونة حتّى أخرجها الشيطان لمشركي العرب، فاتخذت قضاعة ودّا فعبدوها بدومة الجندل، ثمّ توارثه بنوه الأكابر فالأكابر حتّى صارت إلى كلب فجاء الإسلام وهو عندهم، وأخذ أعلى وأنعم وهما من طي يغوث فذهبوا به إلى مراد فعبدوه زمانا، ثمّ إن بني ناجية أرادوا أن ينزعوه من أعلى وأنعم، ففروا به إلى الحصين أخي بني الحرث بن كعب، وأما يعوق فكان لكهلان، ثمّ توارثه بنوه الأكبر فالأكبر، حتّى صار إلى همدان، وأما نسر فكان لخثعم يعبدونه، وأما سواع فكان لآل ذي الكلاع يعبدونه.
وقال عطاء وقتادة والثمالي والمسيب: صارت أوثان قوم نوح إلى العرب فكان ود لكلب بدومة الجندل، وكان سواع برهاط لهذيل، وكان يغوث لبني غطيف من مراد بالجوف، وكان يعوق لهمدان، وكان نسر لآل ذي الكلاع من حمير، وأما اللات فلثقيف، وأما العزى فلسليم وغطفان وخثعم ونصر وسعيد بن بكر، وأما مناة فكانت لقديد، وأما أساف ونائلة وهبل فلأهل مكّة، وكان أساف حيال الحجر الأسود، وكانت نائلة حيال الركن اليماني، وكان هبل في جوف الكعبة ثمانية عشر ذراعا.
وقال الواقدي: كان ودّ على صورة رجل، وسواع على صورة امرأة، ويغوث على صورة أسد، ويعوق على صورة فرس، ونسر على صورة نسر من الطير.
{وقدْ أضلُّواْ كثِيرا} أي ضل بعبادتها وبسببها كثيرا من الناس نظيره {ربِّ إِنّهُنّ أضْللْن كثِيرا مِّن الناس} [إبراهيم: 36] {ولا تزِدِ الظالمين إِلاّ ضلالا مِّمّا خطيائاتهم} أي من خطاياهم و(ما) صلة وقرأ أبو عمروا {خطاياهم} {أُغْرِقُواْ فأُدْخِلُواْ نارا فلمْ يجِدُواْ لهُمْ مِّن دُونِ الله أنصارا} وقرأ أبو حيوة والأعمش: {مما خطيئتهم} على الواحد، وروى أبو روق عن الضحاك في قوله سبحانه: {أُغْرِقُواْ فأُدْخِلُواْ نارا} قال: يعني في الدنيا في حالة واحدة كانوا يغرقون من جانب ويحترقون في الماء من جانب.
أنشدنا أبو القيّم الحسن قال: أنشدنا أبو سعيد أحمد بن محمد بن رمح، قال: أنشدنا أبو بكر بن الأنبازي:
الخلق مجتمع طورا ومفترق ** والحادثات فنون ذات أطوار

لا تعجبنّ لأضداد إن اجتمعت ** فاللهُ يجمع بين الماء والنار

{وقال نُوحٌ} قال مقاتل: نوح بالسريانية الساكن، وإنّما سمّي نوحا؛ لأنّ الأرض سكنت إليه {رّبِّ لا تذرْ على الأرض مِن الكافرين ديّارا}. أحدا يدور في الأرض فيذهب ويحيى، وهو فيعال من الدوران مثل القيام أصله قيوام وديّوار.
وقال القتيبي: أصله من الدارأي نازل دارا {إِنّك إِن تذرْهُمْ يُضِلُّواْ عِبادك} قال ابن عباس: كان الرجل ينطلق بابنه إلى نوح فيقول: احذر هذا فإنّه كذّاب وإن أبي حذّرنيه فيموت الكبير وينشأ الصغير عليه.
{ولا يلدوا إِلاّ فاجِرا كفّارا} يعني: من سيكفر ويفجر. قال محمد بن كعب ومقاتل والربيع وعطية وابن زيد: إنّما قال نوح عليه السلام هذا حين أخرج الله تعالى كلّ مؤمن أصلابهم وأرحام نسائهم وأيبس أصلاب رجالهم قبل العذاب بأربعين سنة، وقيل: سبعين سنة وأخبر الله سبحانه وتعالى نوحا أنّهم لا يؤمنون ولا يلدون مؤمنا، فحينئذ دعا عليهم نوح، فأجاب الله سبحانه دعاءه فأهلكهم كلّهم ولم يكن فيهم صبي وقت العذاب.
وقال أبو العالية والحسن: لو أهلك أطفالهم معهم لكان عذابا من الله لهم، ولكن الله تعالى أهلك ذريتهم وأطفالهم بغير عذاب ثم أهلكهم، والدليل عليه قوله سبحانه: {وقوْم نُوحٍ لّمّا كذّبُواْ الرسل أغْرقْناهُمْ} [الفرقان: 37] وقد علمنا أن الأطفال لم يكذّبوا الرسل وإنّما وقع العذاب على المكذّبين.
{رّبِّ اغفر لِي ولِوالِديّ ولِمن دخل بيْتِي مُؤْمِنا} أي داري، وقال الضحاك: مسجدي، وقيل: سفينتي {ولِلْمُؤْمِنِين والمؤمنات} عامة وقال الكلبي: من أُمّة محمد صلى الله عليه وسلم {ولا تزِدِ الظالمين إِلاّ تبارا} هلاكا ودمارا. اهـ.